في أحد الأيام .. جلست أفكر مع نفسي
في السجن و في المسجونين
المبعدين عن أهلهم و ذويهم .. و المحرومين من نور الحرية
ثم بدأت أثول في نفسي ... إنهم لا يستحقون مني التفكير .. و لا يستحقون أن أشغل رأسي بهم علي الاطلاق
هم يستحقون ما هم فيه
أليس فيهم من سرق .. ؟
أليس فيهم من قتل ..؟
أليس فيهم من ارتشي و أكل أموال الناس بالظلم و العدوان ..؟
أليس فيهم من عاث في الأرض يفسد فيها و يخرب ..؟
لا .. لا يستحقون شفقتي علي الاطلاق
لكن فجأه حدث لي شئ لم أشعر به من قبل
أومضت ذاكرتي بداخلي إحدي الذكريات القديمه
التي مازلت أحتفظ بها الي الآن في أعمق أعماق قلبي .. و بين تلافيف مخي و عقلي ..!
أخذتني لــ ثلاثة عشرة سنه كاملة للوراء ..
حين كان عمري أنذاك لا يتعدي السبع سنوات ..
فتذكرت يوماً من الأيام .. كنت قد استيقظت فيه مبكراُ كعادتي حينها .. فنحن في دراسة
و كيف أني وجدت كل من البيت يبكون لسبب أجهله
رأيت أمي تبكي بحرقه .. و حولها أخوتي يبكون معها
و لم يكن والدي بالبيت .. و لم يوصلني بسيارته الي المدرسه في ذلك اليوم
و لم أكن مستوعباً لما يحدث .. و لكني بدأت أدرك بعدها بفتره ..
حان طال الغياب .. و حين لم أعد أري أبي حولي مطلقاً
و حين بدأت أسرتي تنتظر .. و أنتظر معهم للشئ الذي أسموه حينها " إذن الزياره "
و الذي لم يكن الا ورقه صغيره تسمح لي برؤية والدي من حين لآخر
كنا نسافر بالساعات في ذلك اليوم الموعود .. لنصل في النهاية الي مكان غاية في الوحشه و السوء
كنت كلما اراه بوحشته تلك .. انقبض قلبي الصغير كحمامة ابتلت في يوم ماطر
و كم كنا نشمي بالساعات في طريق طويل شبه معبد
لم أكن أحسب أن له نهاية في كل مره نضطر الي السير فيه
و في النهاية .. كان يقودنا لأسوار عظيمه ذات بوابه ضخمه
عليها من الحرس الكثير
فنقف مره اخري لفتره قد تصل الي ساعةٍ او اكثر
و لا ادري الي الان لماذا كنا نقف كل هذه المده في الشمس و الحر بعد ان نصل لتلك البوابه
لكننا كنا نستغل تلك الفتره في مراجعة ما حملناه من أمتعه ثقيله و نطمأن الي ان اغلب ما حملنا قد وصل بأمان
فقد كانت الاشياء في كل مره .. اما تنكسر او تنسكب في تلك الطريق الرمليه الطويله
كان وصولنا لتلك البوابه كوصول الماء لحلق الصائم بالنسبة الينا ..
فكنا نأخذ انفاسنا اللاهثه سريعا ..و نتنفس الصعداء ..
و نحاول بقدر الامكان الا يبدوا علينا الارهاق او التعب
فبعد مدة .. ستفتح تلك البوابه .. و سندخل لنري الوالد .. فلا يجب ان نتعبه بمظهرنا المرهق الرث
كانت المنطقة خلف أسوار البوابه لا تخلتف كثيرا عن تلك خارجها
نفس الوحشه .. و نفس الاقفرار
كانت تختلف فقط في احتوائها علي مبنين يقال لهما "مباني المساجين"
.
.
.
مالي اراك ملامح الاستعجاب قد اكتست وجهك .. ؟؟
نعم عزيزي القارئ .. من يكتب اليك الان .. يحكي لك عن أول لقاء له مع السجن
الطفل ذو السبع سنوات .. دخل الي السجن ليزور والده الأسير ..
ذلك الوالد الشريف الذي الذي لم يسرق يوماً و لم ينهب مطلقاً من خيرات هذا البلد
بل شهد له الجميع بالأمانه الجمه و الخلق الرفيع
ذلك الوالد الذي ربانا و منذ الصبا علي عزة النفس و الكرامه
فلم نسرق يوماً و لم نأخذ في يوم من الايام ماليس لنا ..
ذلك الوالد الذي رفض الرشوه في زمن قل فيه الطاهرون
و رفض السفر و الهروب لخارج البلد ..
و لطالما قال ان بلدنا اولي بنا من الغرب
ذلك الوالد الذي عرفه الجميع بكرمه الملقت للأنظار .. و مروئته التي سلبت عقول الكثيرون من حوله
و عرفت الان لماذا انتعشت ذاكرتي و أحيت في تلك الذكري من جديد
لتقول لي ان هناك المئات الان بل الالاف مثل والدي
ظلموا و بهتوا حقوقهم
و ليس لهم من الدنيا الأن غير زنزانة حقيرة لا تصلح الا للعبيد
هؤلاء الشرفاء الذين لم ينثنوا أبداً امام بهاء السلطه و اغرائها و لا بالاموال و نعيمها
لعلمهم التام ان الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضه
فكان ذنبهم الوحيد ان قاموا فقالوا " ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا "
فهؤلاء الشرفاء .. وجب ان تنحني لهم هامات الجبال اجلالاً و اكراماً
فهم من المظاليم ..
و يا عزيزي ... بلي
يا ما في السجن مظاليم